الفقهاء في النجف: الجواهري والتمرد الأول
الجواهري والى يساره، فالح عبد الجبار/ دمشق في اوائل الثمانينات الماضية
القســـم الاول
للكتابة عن الجواهري مذاق خاص. فعملاق الشعر هذا ناهز عمره قرنا وقرنا ونيف. ويشكل عمره تاريخا كاملا بحرفية التعبير لا مجازه.
فهو، إن قسمنا صروف السياسة، يسبق في ميلاده تشكل الدولة العراقية الحديثة بعقدين. وهو، بالمعيار ذاته، يتجاوز حمقها وضيق رؤيتها عقودا. وينبغي لهذه الدولة أن تستمر عقدين ونيف كيما تلحق بمداه الزمني، وان تتعقل قرنا إن رغبت في أن توازيه نضجا ورحابة رؤية.
غير أن للجواهري بعدا تاريخيا آخر، يتمثّل في صعوده على التخوم الفاصلة بين عصرين، عصر النقل والتراث، وعصر العقل والعلم. وكان تمرده الأول على الانتماء لعالم الفقه الديني، من المعالم الواضحة على بداية هذا العصر الانتقالي.
وبودي أن ابحث قضية هذا الامتناع عن الانتماء لطبقة الفقهاء. فهي أول قضية حكمت وعيه، وأول قضية اختبر فيها خياراته. وتنطوي هذه القضية، في رأيي، على تناقضات عصر فكري كامل، كما تستبطن تناقضات شخصية الجواهري التي جبلت، بفعلها، من معدن قلق، وروح مشاكس.
كان الجواهري، شأن كثرة من الشعراء الذين سبقوه أو جايلوه، ينحدر من أسرة دينية كريمة، أسرة الفقيه محمد حسن النجفي، المعروف بالجواهري، نسبة إلى سفره الكبير في أصول الفقه الموسوم "جواهر الكلام". وعلى هذا فان ولوج عالم الفقه والتبتل، والانغمار في دقائق الأصول والفروع من العلوم الدينية، والانتماء أخيرا إلى طبقة الفقهاء، يبدو بمثابة "تطور طبيعي" لحفيد صاحب "جواهر الكلام"، احد اكبر وأهم مراجع الفقه الشيعي في النجف، مركز الإشعاع الديني عصر ذاك، وعصرئذ، رغم ما تعانيه من ابتلاء راهن.
ويحملنا التخيل على الافتراض بأن الجواهري لو ولد قبل عقدين لدخل التاريخ معتمرا عمامة فقيه مبجل. ولو تأخر ميلاده عقدين لطلع علينا متمردا يساريا، أو متمردا فكريا من حملة لواء الحداثة، جيل التمرد الثقافي المجدد. لكن الجواهري انسلّ إلى موقع فريد، موقع خاص خارج أهم طبقتين في عصره: طبقة الفقهاء منتجة الثقافة المقدسة، والطبقة السياسية الصاعدة حاملة لواء التحديث في عراق مفتتح القرن.
وقف الجواهري، رغم محاولات الدمج أو نوازع الاندماج، خارج هاتين الطبقتين، حاملا راية الشعر الكلاسيكي المفعم بمضامينه الحديثة، مولّدا مزيجه الخاص، الفريد، في تلك التخوم الفاصلة والموصلة، حيث تتداخل أطياف الماضي بأطياف الحاضر.
أحاول في هذا المبحث أن أتلمس استجابة الجواهري الثقافية في هذا العالم الانتقالي، وان أتلمس أيضا رؤيته لنفسه خلال هذه الاستجابة، وصولا إلى تشخيص علّة أو علل خروجه على طبقة الفقهاء، واختياره ملكوت الشعر وسيلة للانفصال.
ويلح السؤال الأساس في هذا: كيف تأتى له، وهو اليافع، أن يخرج على رغائب وتقاليد أسرة عريقة، محافظة، في بيئة شديدة التقليد، بيئة النجف العريقة؟ وأية شروط جعلت من التجاذب بين قطبي الرضوخ والتحدي، ذلك النسيج الروحي الذي لازمه حتى آخر لحظات شيخوخته، والذي أسبغ عليه ذلك العناد المناكد، وتلك المشاكسة الجامحة، وظللها بذلك التوق المعاكس إلى القبول، والرضا، والتصالح مع النفس ومع العالم في آن.
وسجّل هذا الوقوف على الحبل المتأرجح، فوق هاوية مفغورة الأشداق:
عجيبّ أمرك الرجراج، لا جنفاً ولا صددا
تضيق بعيشة رغدِ، وتهوى العيشة الرغدا
وتخشى الزهد تعشقه، وتعشق كل من زهدا
ولا تقوى مصامدةً، وتعبد كل من صمدا
وتطمح تجمع القمرين، فخرهما أن انفردا
اعتمد في هذا المبحث على مذكرات الجواهري بدرجة معينة، دون الاقتصار عليها وحدها، فهي محملة برؤياه الذاتية، الباطنية، للقضية، ولابد من الإلتفات إلى مراجع تاريخية عن الحياة الاجتماعية والفكرية في حاضرة النجف، موئل علوم الدين.
قبل الإيغال في هذا الموضوع ينبغي لي أن اعرّف القارئ بكتاب "ذكرياتي" الذي دوّن فيه الجواهري بعض ما يعتمل في خياله.
المذكرات واللامذكرات
في منتصف الثمانينات حزم الجواهري أمره أخيرا على وضع مذكراته بعد أن شارف على التسعين أو نحوها. كان تردّده قبل ذاك في الشروع بالتدوين نابعا من وخزات عقل موسوس: إن كتابة المذكرات هي بمنزلة الوصية الأخيرة، الولوج إلى عتمة القبر. ولما كان الجواهري يرى، وهو محق في ذلك، أن لديه بعدُ عقدا أو يزيد لأن يطأ هذه الأرض، ويخدش أديمها، فقد أرجأ وماطل، حتى استقر به الرأي على إنهاء التسويف.
سجل الجواهري ذكرياته على أشرطة فيديو في حديث طلق، متصل، دون اعتماد بنية محددة. وعمل بنصيحة الأقرباء في أن يرتب الذكريات في السياق البديهي: تسلسل الروزنامة، المتتالي، المتوالي، حتى لو كانت الذكريات ستفقد بذلك رونق التشكل في محاور وقضايا وأحداث، أو ستمتنع عن الانطلاق في عالم التأملات الفسيح. دخل الجواهري خانة هذا التقسيم التقويمي طوعا، فكان بذلك كمن يدخل قفصا محكم الغلق بلا كوّة.
يقال أن لصا تشيكيا سطا على الأشرطة والكاميرا في شقة الجواهري في براغ، فاضطر الشاعر إلى أن يعيد الكرّة، مسجلا ذكرياته بلغة محكية (العامية العراقية المفصّحة) على أشرطة تسجيل صوتي هذه المرة.
وفي دمشق، المقر الثاني لإقامة الجواهري، تطوع عراقيون منفيون مثله، لتفريغ النص الصوتي على الورق خلال عامي 1984 و 1985. أما صوغ النص مجددا في قالب لغة عربية فصحى، فأسند إلى متطوعين كنت واحدا منهم. وممن ساهم في التحريري، التراثي الراحل هادي العلوي، والكاتب زهير الجزائر، وآخرون.غير أن تحرير أو إعداد جلّ النص وقع عليّ بالكامل، بينما تولى الشاعر عبد الكريم كاصد الإشراف اللغوي على عموم المذكرات بجزئيها.
كانت عملية التحرير منهكة: إخراج النص المحكي من اسر ثلاثة أقفاص:
الأول، يتمثّل في عبور تلك المسافة، العصية أحيانا، بين لغة الكلام ولغة الكتابة.
يعرف اللسانيون، خيرا مني ألف مرة، ذلك البرزخ الفاصل بين المحكي والمدون، الذي يفصل بين عالمين من نظم الإشارات والمعاني والدلالات، رغم تداخلهما.
كنت أتلمس معالم هذا البرزخ في صوره الحسية: نبرة الصوت، ثم (بعد استنطاق الجواهري) لغة الإيماء (أو لغة الجسد كما يقولون)، من ارتفاع سبابة، إلى التواء شفة، إلى تقطيبة حاجب، فهزّ منكب.
وهناك، بالطبع، البعد الفيلولوجي الخاص في اللغة المحكية، بما فيه من رموز، وعلامات، وبناءات خاصة لعلاقات الدال بالمدلول، الشائكة، أي العصية على كل غريب عن البيئة الثقافية، سواء كانت هذه البيئة ضيقة (مدينة، أو فئة اجتماعية) أو واسعة (بلد، فترة تاريخية).
حاولت في ثنايا التحرير، أن اخرج من هذا القفص، قدر الممكن، بالتماس الجواهري نفسه، إيضاحا، واستزادة، أو إيغالا في بعض التفاصيل. وكنت أرى، في مجرى هذا التوغلن وجود نص وراء النص، عالما كاملا يفترض المؤلف أن وجوده "تحصيل حاصل"، فهو مشترك ثقافي، ماثل في المخيلة الجمعية، دون أن يفطن (كما يحصل عادة) إلى الفارق الزمني (الأجيال) أو الثقافي، أي وجود متلق لا يعرف الدلالات إما بحكم وقوعه خارج حقل الزمان أو حقل المكان المشترك.
أما القفص الثاني، الذي انحبست فيه المذكرات فيتمثل في بنيتها. أشرت إلى أنها زُجّت في إطار تقويمي اعتمد تقسيمات عشرية: العقد الأول، فالعشرينات، فالثلاثينات، فالأربعينات، وهلمجرا. لعل مثل هذا التقسيم ينشط فعل التذكّر ويذكيه، في جانب، مع إن هذا آخر ما يحتاجه الجواهري صاحب الذاكرة الصورية المذهلة التي تحتفظ بقدرة عجيبة، تختزن الألوان والروائح والأسماء والأمكنة بوضوح سحري. لكن للتحقيب بالروزنامة فعله السالب: تمزيق الروابط العضوية للحكايات والأحداث المتصلة بشخوص ومصائر، خصوصا حين يدور الحديث (على سبيل ابسط الأمثلة) عن التعرّف على شخصية ما في العشرينات، والاصطدام بها في الأربعينات، والتصالح معها في الخمسينات.
كانت نماذج السير و/أو المذكرات الماثلة أمامنا عديدة: لا مذكرات اندريه مالرو، أو مذكرات نيرودا، أو سيرة ارنست همنغواي (بابا همنغوي)، أو اعترافات جان جاك روسو الكلاسيكية، أو "مذكرات كاتب" لفيودور ديستويفسكي، أو سيرة ماري انطوانيت لستيفان زفايج. كانت هذه النماذج تعتمد إما على التداعي الحر، ذلك التطواف الطليق في الزمن المفعم بالتأمل الفلسفي (مالرو، روسو)، أو السرد التسجيلي الروائي (نيرودا)، أو مزيج البحث الأدبي والبوح الذاتي (همنغواي) أو التأمل الإنساني في العصر والإبداع الأدبي (ديستويفسكي)، أو الرواية التسجيلية الموثقة (زفايج).
لم يقو الجواهري على تغيير الدفة من مسار الروزنامة إلى مسار بنيوي لوضع مذكراته، كان قد شارف على التسعين، ولم تعد تتوقد فيه جذوة حركة مدومة كهذه. زد على هذا أن مثل هذه النقلة تستدعي سردا مفصلا روائي الطابع ما كان للجواهري قبل به، بما اعتاده من كثافة الشعر وإيجاز القول، ناهيك عن غربته عن غزارة وتقنيات النثر الحديث (كما يتمثل في الرواية). ولعل نصه النثري الأدبي الوحيد المعروف ("على قارعة الطريق") أفضل برهان على ذلك.
أما القفص الثالث الذي بقيت فيه المذكرات فهو بعد اجتماعي/ فكري خالص يخصنا جميعا. غياب الحرية الباطنية. لقد احكمت كل الثقافات أدوات التحكم الجمعي بوجود الفرد، فكره، حركته، وأيضا (كما بيّن فوكو) جسده. ومن ابسط التنظيمات الاجتماعية (الأسرة، الحارة، الصنف، النقابة، العشيرة) إلى اعقدها (الأحزاب، الأمم، الدول، الجيوش، المؤسسات) ثمة قوى ضاغطة تدمج، وتعدّل، وتوجه، وتكافئ، وتعاقب، لأجل بقاء المونادات البشرية خاضعة للقواعد الجمعية، بما فيها من محارم (تابوات) ومباحات، لا فكاك للموناد من أسارها.
لقد طوّرت ثقافات أخرى (غير ثقافتنا العربية) بناء مؤسسات محتربة، تصنع، باحترابها، ذاته، فراغا وفجوات، وهوامش، يكسر بها الفرد، أي فرد، بحدود الممكن، سطوة المؤسسات، فاتحا بذلك الباب أمام تدفق الباطني، ذلك الوعي الجواني الحبيس، الخائف من معاينة نفسه، لكي ينعم بهناءة الإفصاح.
أما ثقافتنا العربية فإنها تساحل على هامش هذه الحرية، أو قل تخومها الخارجية، خائفة من الاعتراف والكشف، هيّابة من القول، في الجسد والفكر، في النقل والعقل، في الماضي والحاضر، في الموت والحياة. إنها في انحباس دائم، متأرجحة بين المضمر والمعلن. فارضة قيما جمعية مستحكمة، تحبس الوعي الفردي تماما.
لهذه العوامل مجتمعة تقدم المذكرات، رغم عناد الجواهري المشاكس، الجزء الظاهر من جبل الجليد. ثمة، إذن، في مذكرات الظاهر ذلك الباطن المقموع، مذكرات ما وراء المذكرات، بوح ما قبل البوح، ستر البيان وكبته. لقد وعيت، وأنا اعمل مع الجواهري، وأجس احترازه واحتراسه، إننا مقصرون عن هذه الحرية الداخلية بكل الأصفاد الباطنية، وإننا نتمرغ في شقاء الوعي المحروم من معاينة شقائه. وهو يشبه في هذا حبيبة كافكا التي يرى إليها وهي محاطة بدائرة حرّاس يشكّون رماحهم إلى الخارج. لكن المشكلة كما قال كافكا في هذا الترميز، انه هو الآخر محاط بدائرة من الحرّاس يشكّون رماحهم نحو الداخل، فكيف السبيل للوصول إلى المراد، دون أن يجتاز دائرة حراسه وهو مدمّى؟
هكذا هو حال الجواهري رغم ما كان ينعم به من مكانة، وسلطة ثقافية، فكيف حال الأدنى؟ كان يردد، كلما انبجس قيد لاجم للقول: "لو قلت هذا لشنقوني ألف مرة!"
ولعل هذا الشقاء الروحي أحد منابع تصديره للمذكرات بالقول الصيني الشهير: "ولدوا فتعذبوا وماتوا!"، مقابل ذلك الاحتفاء الجذل والغبطة السرمدية مما نجده في تصدير بابلو نيرودا لمذكراته: اشهد انني قد عشت!.
القســـم الثانـــي
العمامة وصولجان الشعر
بعد الاطلالة على "المذكرات" اعود الى تلمس الموضوع الاساس في هذا المبحث، علاقة الجواهري بطبقة الفقهاء، أعني انفصامه الاول. يمكن القول ان هذه العلاقة شائكة، محتدمة، ومتناقضة. وانها رسمت منذ وقت جد مبكر، معالم اضطراب الجواهري، في علائقه مع القوى الاجتماعية التي احاطت به، وتحوّلت الى ما يشبه انموذج انفعالي ثابت البنية يختزن ميولا متضاربة ويذكيها في آن: الانتماء والانسلاخ، الاعجاب والازدراء، القبول والرفض، الامتثال والتمرد، المساندة والاعتراض. وان هذا النمط من العلاقة المحتدمة وسم صلته، فيما بعد، بالطبقة السياسية العراقية الصاعدة التي أسست الدولة الحديثة، والتي اشتبك معها الجواهري، بالنمط المحتدم المتناقض إياه، في علائق تساوق وتجابه، يضمر فيها التناغم تعارضا، مثلما يضمر التعارض فيها ميلا للتناغم، حتى في اقصى اللحظات على طرفي القطبين.
قلت في مطلع هذا المبحث ان الجواهري كان مرشحا، مثل غيره من الشعراء الذين سبقوه، الى الدخول في عالم الفقه الاصولي (كناية عن المدرسة الاصولية خلافا للمدرسة الاخبارية)، وكان يُعدّ لهذا المصير إعدادا صارما على يد ابيه سليل الاسرة الجواهرية. ولم يكن في هذه التهيئة أي غرابة، او خروج على مألوف التقاليد الفكرية – الاجتماعية في النجف مطلع القرن العشرين، بل الغرابة كل الغرابة ان يفلت الجواهري نفسه من هذا المألوف "الطبيعي" عصر ذاك. لتفسير ذلك ينبغي ان نعاين شروط هذا الانفلات.
كانت النجف تقوم على عدة عناصر من التنظيم الاجتماعي، يمكن تقسيمها الى مجموعتين، المجموعة الاولى تنتمي الى التنظيم الأكبر (macro) الذي يشمل الدولة والمدينة، والمجموعة الثانية تنتمي الى التنظيم الأصغر (micro) والذي يضم القوى الاجتماعية الداخلية، كزعماء الاحياء والمرجعية الدينية واصناف التجار و الحرفيين.
لنأخذ التنظيم الأكبر. كانت النجف، على امتداد جل الحقبة العثمانية، اشبه بدولة – مدينة، شأنها شأن كربلاء ومدن اخرى، لها استقلاليتها، ولها رابطتها البرانية مع الدولة المركزية، القائمة على اساس دفع الضرائب، والولاء السلبي (أي الامتناع عن التمرد على المركز).
قبل النزوع التدخلي – المركزي للدولة الحديثة، بقيت النجف، ومدن اخرى، تعيش في استقلالية نسبية تقربها من وضعية دول المدينة، وان كانت النجف، بخلاف دولة – المدينة النموذجية، تفتقر الى النظام السياسي، أي وجود سلطة ممركزة تقوم على اساس قواعد محددة للحكم.
لنأخذ التنظيم الأصغر (micro) داخل مدينة النجف.
تميزت المدينة بوجود ثلاث قوى اجتماعية اساسية.
ا لقوة الاجتماعية الاولى هي طبقة الفقهاء، او المرجعية الدينية، التي تقوم على سلطة المقدس، والتي درج السوسيولوجي العراقي علي الوردي على تسميتها بالملائية، وهي تسمية غير دقيقة ومشوشة. اما القوة الاجتماعية الثانية فهي طبقة المحاربين، المؤلفة من عناصر فتوة الاحياء، وعلى رأسها زعيم محارب، وتقوم على احتكار وتنظيم وسائل العنف.
اما القوة الاجتماعية الثالثة فتتمثل في طبقة التجار والحرفيين، وتقوم على سلطة الثروة. وهناك بالطبع علائق تبادل بين هذه القوى. فالطبقة الممثلة للمقدس تقدم خدماتها الدينية، وتتلقى المدفوعات الدينية (الخمس، النذور، الكفارات... الخ)، وتفرض علاقتها على العوام على اساس مذهب التقليد، الذي يلزم كل شخص غير مجتهد بالتماس واتباع رأي المجتهد. اما طبقة "المحاربين" فتقدم خدماتها العسكرية (درء غزوات البدو، حماية الزوار – الحجيج – وحفظ الأمن الداخلي) وتتلقى مقابل ذلك مدفوعات (مثلما تنتزع اتاوات)، وكانت هذه الطبقة تأخذ من رجال الدين ومن التجار، والاغراب، مثلما كانت تدفع لهؤلاء.
وبالطبع، فان طبقة رجال الدين منظمة على اساس الأسر، ومنقسمة ايضا على اساس اثني (فارسي، عربي، تركي، او حتى هندي). اما طبقة المحاربين فانها منظمة على اساس الاحياء (اربعة احياء اساسية في النجف: العمارة، الحويش، البراق، المشراق)، لكنها منقسمة عموديا الى فئتين: الزقرت (او الزقاريط) والشمرت. وكانت في احتراب دائم حتى 1916 يوم توحدت لتؤسس سلطة النجف المستقلة.
ولتقدير مكانة طبقة الفقهاء ينبغي ان نؤكد عدة امور: اولا ان هذه الطبقة هي حاملة الثقافة الاولى في دنيا الاسلام؛ او الشكل الاساسي للثقافة، الطاغي على كل ما عداه. والثاني ان هذه الطبقة بلغت، بفضل تنظيمها وقواعد المذهب الاصولي شأوا كبيرا. يكفي ان نذكر ان النجف ضمت اواخر القرن التاسع عشر ما يقارب من ستة آلاف فقيه في مرتبة الاجتهاد او ما يقاربها. وان طلاب العلوم الدينية قدروا، مطلع القرن، بنحو 15 – 20 ألف طالب من مختلف اصقاع الارض، من اقاصي الهند، وايران، وتركيا، واذربيجان، والخليج، وجبل عامل.
وقدرت مداخيل النجف من الخمس والنذور والاوقاف بنحو مليون جنيه استرليني. وباختصار كانت هذه الطبقة، سنة ولد الجواهري، في أوج قوتها منذ ان عمل جد الجواهري، محمد حسن النجفي، او تلميذه الشيخ مرتضى الانصاري، على مركزة المرجعية، أي حصر السلطة الدينية بيد المجتهد الأعلم لتجاوز حالة التشظي، المميزة للشكل التظيمي السابق.
ارتدى الجواهري العمامة في وقت مبكر. وراح الأب يصطحب الطفل منذ يفاعته، الى مجالس الفقه والادب، كي يتدرّب على قواعد ونواظم عالم الكبار. ويذكر الجواهري، حانقا وملتاعا انه حرم مبكرا من طفولته، فاحتفظ لهذا، بقدر من العناد الطفلي لازمه حتى حين ناهز المائة عام.
ويصف هذا الحرمان بالتياع: "قبل ان يعتاد الطاقية البسوه عقالا عربيا، وقبل ان يعتاد العقال رفعوه ليعتمر بدلا منه عمامة وجبّة" (ذكرياتي ص 53).
كان عالم الفقهاء، كما اسلفنا، ينتظم في اسر وبيوتات، ويعتمد الصعود فيه على عناصر عدة، من العلم والتفقه، والتقوى، الى كسب الاتباع والممولين، في تنافس صامت بين مراكز قوى شتى. وكانت اسرة الجواهري قد فقدت مكانتها بالتدريج، بوجه عام، اما فرع عائلة الشاعر، فكان الأوهن والأضعف في هذه الاسرة، اذ فقدت هذه العائلة الرياسة، رياسة الاسرة الى فرع آخر.
في هذا المناخ عاش الجواهري طفولته وهو يشهد تدهور العائلة، وإقصاءها. فخارج سلطة المقدس، وخارج سلطة العنف، وخارج سلطة الثروة، لا مكان للأسر الضعيفة إلا في الفراغات والحواشي والهوامش، إما في مهن وضيعة، او في انتظار المحسنين.
يذكر الجواهري، بمرارة، حتى وهو في شيخوخته كيف انسل متاع البيت الشحيح الى المزاد، ليباع: السجاد، الثريا , الأسرجة، كل ذلك لسدّ الرمق (ذكرياتي ص 48).
فتح هذا الحال في روح الجواهري اليافع اول الجروح وأعمقها، فهو بين ضغوط الأب عليه لاعداده من اجل دخول الطبقة المقدسة، واستعادة مجد اسرة آفل، وضغوط واقع معاكس يقصي العائلة عن احتلال موقع مرتجى، الى الحواف الهامشية للعيش والوجود.
خلال حياة الأب، كان الجواهري يذود عن نفسه من عنت الفقه بأسلوبين: الشرود عن اللحظة الحاضرة في المجالس نهارا، ورعب الكوابيس ليلا. وكان هذا الشرود وتلك الكوابيس بمثابة آليات دفاعية، لصد المؤثرات ثقيلة الوطء على وعي طفل. وهذه الدفاعات النفسية تتيح الفرار من اللحظة، غلق النفس عن العالم الخارجي، او قنوات لتفريغ الاشواك المنغرزة في الروح.
عالجت الأم القلقة صراخ ابنها المفزوع في منامه بالتعاويذ والرقى، اما الأب فخفف من غلواء امانيه المعقودة على محمد، ذي الحافظة الآسرة، والذكاء الوقاد، بأن يستعيد مجد اسرة الفقه النجفية المنكودة. بموازاة ذلك كان الفتى محمد يغرق في إيقاعات الشعر، اجراس روحه الحبيس.
شروخ الروح تجلّت في وعي الطفل في صورة حرمان من ملاعب الصبى، وعوزا مؤسسيا الى المحسنين، وآلام أب صامت تفتك به المحنة، فيموت بغتة امام ناظري الطفل. فيفجع الابن بهذا الفقد مرتين: مرة حزنا على أب، ومرة خسارة طفل صغير لسند راشدين. بات الجواهري في حالة من انعدام الوزن، او هكذا خُيّل اليه. ولكنه اكتشف، في صدمة كبيرة، انه تحرر من وصاية أب، خرج من قبضة ظله الآسر، ليكون امام حريته المرعبة في ان يختار:
"بعد وفاة والدي انفردت بشخصي... قبل ذلك، كنت مجرد ظل له ولوصايته المحكمة عليّ..". بعد رحيل الأب، يقول الجواهري، "خرج الشاعر من جبّة الفقيه (ذكرياتي ص 85).
من بالغ التبسيط ان نتصور خيار الجواهري محض واقعة "نفسية"، او محض نتاج "عائلي" لطفل يُجر جرا الى عالم الفقه، فيعاند ويرفض، ويتمرد على رغائب الأب، ويجد نفسه بعد رحيل ابيه، طليقا، يصنع ما يشاء. فشروط خروج الجواهري على التيار القوي الذي دفعه دفعا لدخول عالم الفقه، تقع خارج بنيته النفسية، بل حتى خارج احوال عائلته. ثمة طيف من عوامل أدت به الى هذا الخروج، ليس بينها شيء من صنع يديه.
القســـم الثالث
عصــر جديـــد
دخل الجواهري في يفا عته عصرا جديدا كان يتلمس بعض معالمه حسياً دون ان يعيه إلا في وقت متأخر.
لنتذكر ان الجواهري ولد بعد رحيل المفكر المجدد جمال الدين الافغاني بعامين او ثلاثة، وقبل رحيل الكواكبي (1901) ومحمد عبده (1904) بضع سنوات، فهو اذن في توسط بين هؤلاء. ويرمز هذا التوسط في الميلاد الى فترة خصبة، فترة تحديث الدين في اكبر اتصال (واحتكاك) بين الغرب والشرق. يقال ان وعي الاختلاف أداة للتقدم الاجتماعي، يخرج بها الفكر البشري من العماء الارسطي (chaos) الى العقل (الناظم Logos). عاصر الجواهري "وعي الاختلاف" هذا بكل امتلائه. تلمست النجف آثار عصر الطباعة والتلغراف، مثلما تعرفت على ثقافة العقل مقابل النقل، والدولة المركزية الحديثة، بدل نظام الملل، والنص المطبوع بدل المخطوطات المدونة، والانفتاح العالمي بدل الروح المحلية، المنغلقة، الضيقة. ولعل ابرز تحول وخز عين الجواهري هو انحسار المعرفة الدينية، او بروز ازدواجية المعرفة، مع ما يرافق ذلك من احتدام اجتماعي وفكري، لعل بعض معالمه ان الطبقة التي أريد له الدخول في عدادها كانت تفقد مركزيتها المطلقة، فيما كانت شخصية المثقف الدنيوي، الشاعر والكاتب، في صعود بيّن.
لنأخذ هذا التحول في بعض وجوهه. معروف ان المرجعية الدينية الممركزة تأسست في النجف على يد المدرسة الاصولية بين مطلع ومنتصف القرن التاسع عشر. ثمة خلاف بين المؤرخين وعلماء الاجتماع حول نقطة المبتدى. هناك من يسند التأسيس الى الشيخ مرتضى الانصاري (ت 1864) (كما هو الحال مع المؤرخ عباس امانات، او عبد الهادي الحائري)، او الى سلفه محمد حسن النجفي (جد الجواهري). وهناك من يرى ان تمركز المرجعية تبلور قبل ذلك على يد تلاميذ محمد باقر اكمل البهبهاني (1704 – 1791) الذي يعود اليه الدور الاساس في إحياء المدرسة الاصولية.
أياً كان الحال، فان نشوء مركز او مؤسسة المرجعية يعبّر عن قمة تطور طبقة الفقهاء، ومنعطفا في تحديث المؤسسة الشيعية.
اعتمدت طبقة الفقهاء، هنا كما في مجالات اخرى، على اسس عديدة اولها احتكار حق تفسير المقدس، سواء على اساس التخصص المعرفي، او المنحدر الشريف، او الاثنين معاً، مما يوجب على العوام، بل حتى طلاب العلوم الدينية المبتدئين، تقليدها واتباعها. وثانيها انها اجازت ادارتها للموارد المقدسة من خمس وزكاة، علما ان التصرف بهذه الموارد يعود للإمام وحده، حامل الشرعية الدينية والسياسية. فجاء التجديد الفقهي (منذ زمان الحليين، المحقق الحلي، والعلامة الحلي) ليفتح باب الاجتهاد في سبل التصرف بهذه الموارد نيابة عن الإمام. ثالث أسس المرجعية هو وجوب تقليد الأعلم، الذي يتطلب بدوره قياس المعرفة كماً بعد تمييزها نوعاً، مما يخلق تراتبية معرفية وسط الفقهاء نجدها ماثلة حتى في مؤسسات التعليم الحديث.
ورابع أسس المرجعية الممأسسة هو احتكار التعليم الديني، علما ان التعليم الديني في عالم الاسلام منذ نشوء اول مدرسة على يد الطوسي (القرن الحادي عشر) حتى نشوء المدارس النظامية (الشافعية – السنية على يد السلاجقة ببغداد) وصولا الى اوائل القرن العشرين، كانت الحاضنة لاعداد المتخصصين المطلوبين للمجتمع، من قضاة، وائمة صلاة، وكتاب عقود، وفقهاء، ومحتسبة في الاسواق، ونحاة، ومدرسين، بل حتى حكماء (اطباء).
كان ذلك الاحتكار يستمد قوته من الموقع المركزي للثقافة الدينية باعتبارها الشكل الأسمى والاول والاخير لكل معرفة.
غير ان عملية معاكسة بدأت تمور وتتعاظم نتيجة الاحتكاك الحضاري بالغرب، واحتدام الحاجة الى تحديث الشرق، وبالذات تحديث مؤسسات الادارة واقامة الجيوش الدائمة. أدى نشوء المدارس الحديثة المتخصصة (للجيوش الدائمة بادئ الأمر – في اسطنبول والقاهرة وطهران) الى نشوء ازدواجية: انشطار المعرفة الى دينية ودنيوية.
وترسخ هذا الانشطار بنشوء تقسيم عمل اجتماعي جديد (حديث) قوامه الضباط والمهندسون والاطباء والمترجمون، والاداريون، وما شاكل.
فقدت المدرسة الدينية صلتها بتقسيم العمل الحديث، أما تقسيم العمل القديم التقليدي، فقد تراجع باطراد. أدى ذلك الى تضاؤل مركزية المدرسة الدينية، وتقلص مركزية الفكر الديني في عالم المعرفة. تجلى ذلك في انخفاض طلاب المدارس الدينية في عموم البلدان العربية، ولم تكن النجف استثناء بأي حال. بموازاة ذلك اخذت موارد طبقة رجل الدين في التناقض. فالخمس والنذور والكفارات، وموارد الاوقاف، راحت تتضاءل لأسباب اجتماعية وسياسية واقتصادية.
لقد جاءت مساعي دفع الجواهري للانتماء الى طبقة الفقهاء في فترة خروج هذه الطبقة من عصرها الذهبي، وهو خروج سريع، عاصف، ومؤلم احيانا.
وتلمس الجواهري هذا الواقع، واقع افول الطبقة المقدسة وانشطار الثقافة، بصورة حسية، عفوية، كان يرى فيها الى "الشاعر"، كمثقف دنيوي، هو يرقى الى مرتبة "الفقيه" كمثقف ديني، والى تساوي منزلة هذين في خياله الطريّ، الغض.
هذا هو العامل الاول الذي مهد لمحمد مهدي الجواهري التمرد على الانتماء الى الطبقة الدينية. اما العامل الثاني، فهو إقصاء فرع بيت والده عن رياسة العائلة الجواهرية رغم تقدم والد الشاعر، على سواه، في امور الفقه، مما اوقع العائلة في فقر موجع.
أيقظ هذا الاقصاء في ذهن الشاعر الجنيني محمد مهدي الجواهري، ذلك الحس النقدي ازاء طبقة رجال الدين. فكان يلحظ، مكتويا، ان مبدأ الأعلمية، الذي أعلى الفقهاء الاصوليون من شأنه، وأرسوه اساسا للمرجعية، كان مجرد مبدأ مثالي في عالم التنافس الدنيوي، بين بيوتات وافراد على الرياسة، تنافس تلعب فيه العلائق، والمداهنات، والمصالح، دورا أرأس، إن لم يكن الدور الأرأس. وكان الجواهري يرى ان أباه كان أحق وأجدر، فقهيا بالرياسة الدينية، لكن مثاليته اوردته موارد البؤس فالردى.
أما العامل الثالث لخيار الجواهري في ان ينسل بعيدا عن عالم الفقه الى رحاب الشعر والثقافة الدنيوية، فهو قوة المؤثرات الثقافية الحديثة. لقد كانت طبقة الفقهاء تحتكر المعرفة الدينية وتفرضها شكلا أوحد للمعرفة. وكانت علاوة على ذلك، تحتكر مصادر هذه المعرفة: المخطوطات. ويذكر الجواهري حيرته واضطراره الى استجداء كتب التراث من المكتبات الدينية العائلية لينهل منها ما يريد.
جاءت الطباعة الحديثة لتكسر احتكار المخطوطات، مثلما جاءت الصحافة الحديثة لتنقل الافكار الجديدة، وتروجها، كاسرة ضيق الأفق المحلي للنخب الثقافية، المتناثرة في المدن المتباعدة. كانت المجلات القادمة من القاهرة وبيروت ("المقتطف"، "العرفان"، وما شاكل) تفتح عالما رحبا يتجاوز الحدود المحلية بكل المعاني، مثلما كانت الافكار الحديثة لرواد الاصلاح، مثل جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي تكتسح ساحة الفكر مقترنة بانقلابات دستورية هزت المياه الراكدة للفكر الاجتماعي، في ثورة المشروطة الايرانية عام 1906 وانقلاب الاتحاد والترقي العثماني في 1908.
ذكر الجواهري، ان هذين الحدثين هزّا النجف هزّأ، وانقسمت المدينة، عموديا، الى مؤيد للمشروطة (الدستور) ومؤيد للمستبدة (الحكم المطلق)، وبلغ الانقسام حدا ان اطفال الاحياء كانوا يمثلون في لعبهم "مشروطة ومستبدة"، فينقسمون الى فريقين متشاحنين، بدلا من لعبتهم السابقة "عسكر وحرامية!".
فتح هذا المناخ عوالم النجف على رحاب العالم، وكان اول "التقدميين" فيها عبد العزيز، الأخ الأكبر للجواهري، وراعيه، فهو من انصار المشروطة، وداعية للحداثة. هذه الاحاطة بمجلات "المقتطف" و"الهلال" (مصر) و"العرفان" (لبنان)، نقلت الجواهري اليافع من ماضي التراث بفقهه وبلاغته وبيانه الى حاضر الفكر، فنراه يقرأ داروين (عبر سلامة موسى)، مثلا، ويلتهم النتاجات الحديثة، رواية او بحثا.
ويبدو ان النجف اتصلت بهذا النهوض في تشوف جامح، لتعمق متناقضاتها كموئل للثروة والفقر، التقليد الغابر والحداثة الجيّاشة، الروح العالية الشمولية للاسلام والروح الضيقة للمحلة والأسرة. ويقول الجواهري "اثر فيّ هذا الجو الثقافي المجدد وعجل في انطلاقي خارج الجو النجفي التقليدي".
أما العامل الرابع (والاخير) في تحول الجواهري فسياسي، ويتعلق بالمبدأ الحديث الناظم لتأسيس الأمم، أي مبدأ القوميات. ولندعه يشرح هذا الامر بنفسه:
"دخلت الخلافة العثمانية طور السقوط بما كانت تقوم عليه من إنكار خصائص وكيانات كل القوميات المنضوية تحت قبضتها... هذه الحركات المنتصرة حفزت المشاعر الوطنية والقومية... وخاصة لدى الشباب العربي المتنور، لكن أئمة الدين في كثير من انحاء العراق لم يستوعبوا جيدا مغزى هذه الحركات التحررية وخلفياتها ولم يتفهموا اوضاع هذه الدول المستعبدة، (و) اكتفوا... بمجرد بريق خداع... مجرد ان الخلافة العثمانية تدين بالاسلام، ولمجرد ان ان المتحالفين عليها كفرة" (ذكرياتي ص 94).
يصعب القبول بحكم الجواهري هذا. فقد لعبت النجف دورها الأبرز في ثورة المشروطة الايرانية، لتذود عن النظام الدستوري، أي لتقف مع تيار التحديث السياسي. وما يزال كتاب حسين النائيني "تبنيه الأمة وتنزيه الملّة" من ابرز وأهم الكتابات النظرية السياسية في ذودها عن النزعة الدستورية الحديثة.
لعل الجواهري يخلط هنا بين معرفة فقهاء مطلع القرن العشرين مبدأ القوميات، والنظم السياسية الحديثة، وبين تحالفهم مع العثمانيين بوجه زحف الجيوش البريطانية.
والمعروف ان فقهاء النجف نادوا بنظام ملكي دستوري يقوم عليه ملك عربي مسلم. ورغم ان جل الفقهاء يتحدرون اثنيا من ايران الفارسية، فان مناداتهم بعروبة الملك المقبل واسلامه، ينطوي على ادراك واضح لمبدأ الاثنيات الحديث.
أياً كان الحال، فان هذه "الاعتراضات" او "النقدات" على بعض فقهاء عصره كانت تشي بقطيعة وانقطاع عن جل الطبقة الدينية النافذة. حتى ثناؤه الشحيح على شيخ الشريعة سيد ابو الحسن، او الشيخ كاظم الخراساني، عميد الدستورية الحديثة، او الشيخ الشيرازي صاحب الفتوى بثورة العشرين كان دالا. (ذكرياتي، ص 78- 79). وهو يكنى الخراساني بأبي الاحرار والشيرازي بالثائر، والإمام سيد ابو الحسن بالإمام الجليل. لكنه اتخذ من هذه النماذج اللامعة معيارا لنقد سواهم، فهم، في نظره، الاستثناء الخاص.
اكتشف الجواهري مكانة الثقافة الدنيوية مقبل الثقافة الدينية: "بدأ دور جيل جديد لا تشفع له الالقاب ولا الزعامة الموروثة) (ذكرياتي ص 79).
واكتشف ايضا الوسائل الحديثة للنشر الصحيفة، والوعي الجديد: الدولة الحديثة في العاصمة بغداد. ويوم هاجر الى بغداد، بعد ان نشر فيها قصائد تباعا منذ ان كان في الثامنة عشر من العمر، كان ذلك خاتمة لمرحلة كاملة، وبداية لمرحلة جديدة، يخرج فيها الجواهري من عالم النجف الصغير، الى عالم بغداد الفسيح. لقد غادر محيط الفقه والمنابر، الى محيط الطبقة السياسية الجديدة في بغداد.
لقد قدمت له هذه الأخيرة وسائل صعوده السريع: الصحيفة المطبوعة، واسعة الانتشار، بدل المنبر الشخصي المحدود في النجف، والحركات الراديكالية بدل حركات التقليد، وجماهير راديكالية هادرة في المدن، بدل مئات المستمعين في المناسبات الشعرية المحلية في النجف، أي قدمت له كل ادوات الانتشار والفعل الثقافي، فارتقى المدارج سريعا، متجاوزا حدود المجد الذي كان تعده به طبقة الفقهاء. غير ان عدوى اضطراب وتقلقل علاقة الجواهري بالطبقة المقدسة انتقل الى علاقته بالطبقة السياسية. فكان يتوق الى الانتماء اليها، ويتمرد عليها. لقد كانت حيرة الجواهري بين المقدس والدنيوي، بين الفقه والشعر، تشبه حيرة جوليان سوريل بطل ستاندال في "الاحمر والاسود" الذي كان حائرا بين مسوح الرهبان، وبزة العسكر، باعتبار الاثنين رمز القوة الاجتماعية. اما علاقة الجواهري بالطبقة السياسية العراقية الصاعدة، ممثلة بالبلاط، وبكبار الوزراء والاعيان، عهد ذلك، فكانت اقرب الى علاقة بلزاك بطبقة النبلاء الفرنسية: فهو يعشق هذه الطبقة، ويعتبر الانتماء اليها أسمى ما في الوجود، ولكنه، من ناحية اخرى يدرك عمق تفسخها، وسيرها نحو التدهور والافول.
لقد ركن الجواهري الى سطوة الشعر لتوكيد تفوقه على عالم الفقهاء ، كانت سطوة الشعر رمزا للثقافة العلمانية، و الصحافة رمز العصر الحديث وأدواته المبكرة. اما بازاء الطبقة السياسية فلم يكن يملك ادوات تفوق كهذه. فوسط هذه الطبقة المولّدة، كانت القيم التقليدية (المكانة الدينية والنسب) تلعب دورها بالتظافر مع القيم الحديثة: الانجاز، الثروة، وما الى ذلك .
وكانت مواقع الجواهري في هرم السلطة (البلاط، البرلمان) او مصادر عيشه (الراتب، الاعلانات الصحفية) خاضعة لتلاعب الطبقة السياسية في العهد الملكي التي أحبها ومقتها بطريقته المعهودة. ولكن تلك قصة اخرى.
المصدر:الحوار المتمدن / التاريخ :2005.8.18