٣٠ - الجواهري في ذكرى رحيله
فيصل لعيبي صاحي
لم يتفق معظم الشعراء العراقيون على شاعر كما إتفقواعلى الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري ودوره المؤثر في الحياة الأدبية والسياسية في العراق والوطن العربي. كما ان عضويته في مجلس السلم العالمي وفي سكرتاريته يضيف بعداً آخر لهذا الدور، حيث تم تزكيته من قبل كل القوى الديمقراطية والتقدمية واليسارية في العراق لهذا الموقع.
عندما بدأ نجم "أبو فرات" يعلو كان طه حسين قد تنبه له وقبله أطلق عليه الرصافي لقب: "ربُ الشعر"، لكن الجواهري في بروزه هذا وجد امامه عقبات و قامات شعرية راسخة،اهمها أمير الشعراء أحمد شوقي وجماعة المهجر اللبنانيين والشاميين وفي العراق كان الزهاوي والرصافي، إضافة الى أن القصيدة العمودية، قد تعرضت لهزّات منذ عشرينات القرن الماضي على يد العديد من الشعراء العرب الذين تأثروا في موجة الحداثة لحركــــة الشعــــر في الغرب الأوربي، والذي تمثلت في العديد من التجارب التي لاتتماشى مع إيقاع القصيدة العربية التقليديــــة، مثل تجربة رفائيل بطي في العراق وعلي محمود طه وجماعــــة الديوان وغيرهم في مصر، إضافة الى بروز قصيدة التفعيلة او ما يسمى بــ (الشعر الحر)، في منتصف الأربعينات من القرن الماضي وفي العراق بالتحديد على يد السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري و عبد الوهاب البياتي.
لكن برغم كل هذا كان الجواهري يختلف عنهم في خاصية نادرة لم يكن يملكها معظم الذين يمكن ان يكونوا عقبة كأداء في طرق صعودة المدوي وتربعه على ريادة القصيدة العمودية على إمتداد أكثر من نصف القرن الماضي، ألا وهي قصيدته الموجهة الى الجماهير مباشرةً. فحتى شوقي لم يكن يملك حضوراً كحضور الجواهري الطاغي امام الجمهور، ولا كذلك طريقة إلقائه أوحركات جسدة التي تعطي للكلمات وقعاً عميقاً في نفوس سامعيه. لهذا كان الجواهري وبسبب تربيته الدينية والمنبرية بالذات، يمتلك موهبة الممثل والخطيب والمرشد معاً.
ومن ميزاته التي بزّ بها غيره أيضاً، مواكبته للأحداث التي مرّ بها العراق والعالم العربي وحتي احداث العالم، وهو هنا يقترب من شوقي في هذا المجال وقد يتساوون في شدة ملاحقتهم للأحداث عموماً. لكنه كان يضفي على قصيدته تلك المسحة التراجيدية والعاطفية،التي تهيج الجمور وتجعله يتعاطف مع القصيدة والشاعر معاً.
كان أبو تمام والمتنبي أهم الشعراء الذين تأثر بهم الجواهري، وهو بسبب من تناوله للأحداث السياسية والإجتماعية الهامة في عصره، قد ساهم في مد عمر القصيدة العمودية وأعطى لها موضوعاً مميزاً و نكهةً مختلفة، فأكد على إمكانية عيشها حتى بعد ان تخلى عنها معظم الشعراء العرب المعاصرين.
والجواهري كما هو شوقي يملك قاموس كلمات وصور ودلالات جعلته يحوز على إحترام حتى المعارضيـــن لنهجه وطريقة كتابته للقصيدة. ولاحاجة لنا اليوم في إعطاء امثلة على شاعريتـــه ومواضيعــــه المميزة، ودرجة دقتها وحرارته العاطفيـــة والفكرية وموقعها الإنساني الرفيع.
* فنان تشكيلي، وكاتب